فصل: ما يستفاد من استشارة الفاروق رضي الله عنه في الفرار من الطاعون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية



.المبحث السادس: بيان الكيفية التي كانت تتم بها الشورى في صدر الدولة الإسلامية وما يستفاد من ذلك:

لقد عرضنا في المباحث السابقة أن الشورى في الشكل الإسلامي لم تتخذ شكلاً معيناً محدداً بحيث لا يجوز مخالفته وإنما اكتفت الشريعة الإسلامية بإيجاد مبدأ الشورى الثابت وتركت أمر تنظيمها وتحديد وسائلها وأساليبها لاجتهاد الأمة بحسب ما تقتضيه مصلحة الأمة، وفي ذلك يقول الإمام محمد عبده: ومعلوم أن الشرع لم يجيء ببيان كيفية مخصوصة لمناصحة الحكام ولا طريقة معروفة للشورى عليهم، كما لم يمنع كيفية من كيفياتها الموجبة لبلوغ المراد منها، فالشورى واجب شرعي وكيفية إجرائها غير محصورة في طريق معين، فاختيار الطريق المعين باق على الأصل من الإباحة والجواز كما هو القاعدة في كل ما لم يرد نص بنفيه أو إثباته، غير أننا إذا نظرنا إلى الحديث الشريف الذي رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه وهو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب موافقة أهل الكتاب في كل ما لم يُؤمَر فيه. ندب لنا أن نوافق في كيفية الشورى ومناصحة أولياء الأمر الأمم التي أخذت هذا الواجب نقلاً عنا وأنشأت له نظاماً مخصوصاً متى رأينا في الموافقة نفعاً ووجدنا منها فائدة تعود على الأمة والدين، فتألف من مجموع هذا أن الشورى واجبة وأن طريقها مناط بما يكون أقرب إلى غاية الصواب وأدنا إلى ضمان المنافع ومجالبها على أنها إن كانت في أصل الشرع مندوبة فقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان تجعلها عند مسيس الحاجة إليها واجبة وجوباً شرعياً.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم».
ويقول طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى: كان الإسلام وما زال ديناً قبل كل شيء وبعد كل شيء يوجه الناس إلى مصالحهم في الدنيا والآخرة بما يبين لهم من الحدود والأحكام التي تتصل بالتوحيد أولاً وبتصديق النبي ثانياً، ويتوخى الخير من السيرة بعد ذلك ولكنه لم يسلبهم حريتهم ولم يملك عليهم أمرهم كله وإنما ترك لهم حريتهم في الحدود التي رسمها لهم ولم يحص عليهم كل ما ينبغي عليهم أن يفعلوا وكل ما ينبغي أن يتركوا وإنما ترك لهم عقولاً تستبصر وقلوباً تستذكر وأذن لهم أن يتوخوا الخير والصواب والمصلحة العامة ما وجدوا لذلك سبيلا، وقد أمر الله نبيه أن يشاور المسلمين في الأمر، ولو قد كان الحكم متنزلاً من السماء لأمضى النبي كل شيء بأمر ربه لم يشاور أحداً ولم يآمر فيه ولياً من أوليائه وقد قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشورة أصحابه في غزوة بدر. وعن المشورة للاعتماد على رأي أصحابه صدر النبي حين أمر بحفر الخندق في غزوة الأحزاب، ولو أردنا أن نستقصي المواطن التي شاور فيها النبي أصحابه لطال بنا الحديث ولكن في هذه الأحاديث اليسيرة التي روينا فيها ما يكفي لإثبات أن الحكم في أيام النبي لم يكن ينزل من السماء في جملته وتفصيله، وإنما الوحي كان يوجه النبي وأصحابه إلى مصالحهم العامة والخاصة دون أن يحول بينهم وبين هذه الحرية التي تتيح لهم أن يدبروا أمرهم على ما يحبون في حدود الحق والخير والعدل.
أما الأستاذ ظافر القاسمي في نظام الحكم في الإسلام فإنه عن كيفية تطبيق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للشورى أيام حياته يقول: نستطيع أن نقسم الشورى أيام الرسول إلى قسمين:
أولهما: شورى وقعت بناءً على طلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أي أن الرسول هو الذي سأل الناس أن يشيروا عليه، وإن شئت سميتها بلغة العصر شورى إيجابية، ومن ذلك ما رواه الطبري من استشارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه قبل غزوة أحد حيث قال إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع بنزول المشركين من قريش واتباعها أحداً قال لأصحابه: أشيروا علي ما أصنع؟ فقالوا يا رسول الله اخرج بنا إلى هذا الأكلب فقالت الأنصار يا رسول الله ما غلبنا عدو قط أتانا في ديارنا فكيف وأنت فينا، فدعا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عبدالله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها فقال يا رسول الله لا تخرج بنا إلى هذا الأكلب. وهكذا فإن الرسول استشار المهاجرين ثم الأنصار حتى رأس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول لم يهمل استشارته، ولقد رأيت اختلافهم بين الخروج من المدينة والبقاء فيها. يقول الطبري ثم إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دعا بدرعه فلبسها فلما رأوه قد لبس السلاح ندموا وقالوا بئس ما صنعنا فقاموا فاعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا اصنع ما رأيت فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل»، وهكذا لم تكن المشورة إلا درساً في السلوك لقنها النبي لأصحابه حتى حُفظ عنه أنه كان يردد في أكثر المناسبات قوله المشهور: «أشيروا عليَّ أيها الناس».
ثانيهما: شورى جاءته من بعض الصحابة ابتداءً من غير طلب وإن شئت سميتها بلغة اليوم شورى سلبية، وأورد ما حدث في غزوة بدر وما أشار عليه الحباب بن المنذر وقد سبق أن أوردناه فلا نعيده هنا وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ برأي الحباب ابن المنذر وقال: «قد أشرت بالرأي».
وربما كان هناك نوع ثالث من الشورى ليس سلبياً وليس إيجابياً وإنما هو أمر بين بين كأن يعزم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على أمر من الأمور ويبدأ بالمفاوضة فيه حتى إذا حان إبرامه رأى أن يستشير فيشار عليه وبعد ذلك إما أبرمه وإما نقضه كالذي وقع خلال غزوة الخندق. أي من استشارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للسعدين بقصد مصالحة المشركين وتخذيلهم على شيء من ثمار المدينة، والمتتبع للهدي النبوي يجد أن الشورى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إما أن تكون لعامة الناس وإما أن تكون لخاصتهم أو لوجهائهم الذين ينوبون عنهم في الغالب كما حدث في قصة استشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسعدين، وكما ورد في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «لو اجتمعتما على رأي لما خالفتكما»، وقد تكون الاستشارة خاصة في أمر عام كما في قصة استشارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأم سلمة في الهدي بعد عقد صلح الحديبية، وقد سبق بيان ذلك وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ برأيها، وقد تكون الاستشارة عامة في أمر خاص إذا تعلق ذلك بأمر هام وخطير يترتب عليه براءة أو إدانة، فقد جاء في صحيح مسلم والبخاري من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها في قصتها قالت: دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله فأما أسامة فأشار بالذي يعلم من براءة أهله فقال: أهلك ولا نعلم إلا خيراً، وأما علي فقال: يا رسول الله لن يضيق الله عليك والنساء كثير وسل الجارية تصدقك. قال فدعا الرسول بريرة فقال: «أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟» قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قط أغمضه غير أنها جارية تنام عند عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر فقال: «يا معشر المسلمين من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيراً»، وذكر براءة عائشة.
وجاء في رواية أخرى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب الناس وحمد الله وأثنى عليه وقال: «أيها الناس أشيروا علي في أناس آذوا أهلي وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء قط، ولقد ذكروا رجلاً والله ما علمت عليه إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلا معي»، فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا في الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. وساق البخاري القصة إلى أن ذكر نزول القرآن ببراءة عائشة رضوان الله عليها.
وهذه الأحاديث تدل على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد استشار استشارة خاصة وذلك كما ورد في استشارته لعلي وأسامة رضي الله عنهما واستشار الصحابة في عقاب من يعمل على إشاعة مثل هذا الإفك بين الناس ولكن القرآن حكم ببراءة عائشة وبتحديد العقوبة فلم يبق للاجتهاد محل.
وهكذا نجد الاستشارة العامة والاستشارة الخاصة في عهد النبوة وفي عهد الخلفاء الراشدين، ففي قصة خروج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام سنة 17هـ ذكر الطبري وغيره: أنه كان قد خرج غازياً حتى إذا كان بسر لقيه أمراء الأجناد فأخبروه أن الأرض سقيمة فرجع بالناس إلى المدينة، ونقل الطبري عن ابن عباس: خروج عمر رضي الله عنه ومعه المهاجرين والأنصار حتى إذا نزل بسر لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة فأخبروه أن الأرض سقيمة فقال عمر: اجمع لي المهاجرين الأولين، قال: فجمعتهم له، فاستشارهم، فاختلفوا عليه، فمنهم القائل: خرجت لوجه تريد الله وما عنده ولا نرى أن يصدك بلاء عرض لك، ومنهم القائل: إنه لبلاء وفناء ما نرى أن تقدم عليه، فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عني ثم قال اجمع لي مهاجرة الأنصار، فجمعتهم، فاستشارهم، فسلكوا طريق المهاجرين، فكأنما سمعوا ما قالوا فقالوا مثله. فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عني، ثم قال اجمع لي مهاجرة الفتح من قريش، فجمعتهم له فلم يختلف عليه منهم اثنان وقالوا: ارجع بالناس فإنه بلاء وفناء. فقال لي عمر: يا بن عباس اصرخ في الناس فقل: إن أمير المؤمنين يقول لكم إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه، قال: فأصبح عمر على ظهر وأصبح الناس عليه، فلما اجتمعوا عليه قال: أيها الناس إني راجع فارجعوا، فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أفرار من قدر الله، قال نعم فرار من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو أن رجلاً هبط وادياً له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس يرعى من رعا الجدبة بقدر الله ويرعى من رعى الخصبة بقدر الله ثم لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة، ثم خلا به بناحية دون الناس، فبينما الناس على ذلك إذ أتى عبدالرحمن بن عوف وكان متخلفاً عن الناس لم يشهدهم بالأمس، فقال: ما شأن الناس؟ فأُخبر الخبر فقال: عندي من هذا علم، فقال: عمر فأنت عندنا الأمين الصدوق فماذا عندك، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إذا سمعتم بهذا الوباء في بلد فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم في بلد فلا تخرجوا فراراً منه ولا يخرجنكم إلا ذلك» فقال عمر: فلله الحمد انصرفوا أيها الناس، فانصرف بهم.

.ما يستفاد من استشارة الفاروق رضي الله عنه في الفرار من الطاعون:

واستشارة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه هنا جاءت للمهاجرين والأنصار ولمهاجري الفتح وهي استشارة لوجهاء الناس وخيارهم وأهل الرأي فيهم ويستفاد منها عدة فوائد منها:
الفائدة الأولى: حرص ولي الأمر على مصالح المسلمين العامة وعدم إقدامه على اتخاذ قرار لم يتبين له فيه وجه الصواب لما في ذلك من المخاطرة بالمسلمين.
الفائدة الثانية: هي مشاورة كل من حضره من أهل الحل والعقد أو من أهل الشورى لما في ذلك من تمحيص الآراء والوصول إلى رأي مفيد عن طريق قدح عقول كثيرة.
الفائدة الثالثة: جواز اجتماع ولي الأمر برعيته على فئات متجانسة كما فعل عمر رضي الله عنه هنا حيث قسمهم إلى ثلاث فئات فئة الأنصار وفئة المهاجرين وفئة مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، لأنه كلما كان العدد المتشاور أقل كان النقاش أوسع لسعة الوقت.
الفائدة الرابعة: الاستئناس برأي كبار السن ذوي الرأي والتجربة.
الفائدة الخامسة: الاستئناس بالرأي الموحد كما استأنس عمر رضي الله عنه برأي مشيخة الفتح لعدم اختلافهم.
الفائدة السادسة: فتح الباب لمن أراد أن يستفسر لإزالة الشبهة عنده ولو كان ولي الأمر قد انتهى بالأخذ بأحد الآراء لأن إزالة الشبهة من قلوب الرعية تأليفاً لقلوبهم واطمئناناً يجعلهم يشاركون إخوانهم في الرأي، كما أنه ينبغي أن يكون عند ولي الأمر القدرة على إيراد الحجج المقنعة، ولكن ذلك لا يبيح للرعية أو بعضهم أن يقفوا موقف المعارضين لما تم التوصل إليه من الشورى بعد عزم ولي الأمر على إنفاذه لقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} أما أبو عبيدة فإنه لم يقف معارضاً وإنما مستفسراً.
الفائدة السابعة: أن الله يوفق ولي الأمر ورعيته للصواب إذا أخلصوا في مشاورتهم وقصدوا المصلحة العامة.
الفائدة الثامنة: أن أهل الشورى مهما كثروا فإنه قد يغيب عنهم الدليل على المسألة من الكتاب أو السنة ولو كانوا علماء مجتهدين مع وجوده عند من غاب عن مجلسهم كما دل على ذلك تلك المناقشات الطويلة، ولو كان عند أحدهم دليل لذكره، ولما كان هناك حاجة لمناقشته حتى جاء عبدالرحمن بن عوف فذكر الدليل فحمد الله عمر رضي الله عنه على موافقته.
قلت وهذه الفوائد جليلة وجميلة ولا تخلو الشورى في كل الأحوال من فوائد جمة وهي تدل على ضرورة استحضار العلماء في مجالس الشورى للأمراء والرؤساء والمجالس النيابية والبرلمانية، وقد درج على ذلك الخلفاء الراشدون كما حدث في شورى الصحابة في تعيين الخليفة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في سقيفة بني ساعدة وشورى عمر رضي الله عنه حينما جعل الأمر شورى في ستة من بعده واستشارته في دخول مصر بعد فتح بلاد الشام واستشارة علي رضي الله عنه أصحابه في مسألة التحكيم وقد لاح النصر وتبين أنها خدعة فلما أشاروا عليه وغلبوه رضخ لأمرهم، وقد قيل إن أهل الشورى كان فيهم ضعف وتناقض في تلك الحادثة أما هو فهو أهل للشورى وما كان يقطع بأمر حتى يستشير وقد أثر عنه أنه قال: الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه، وأما عثمان فإنه لما استأذنه عبدالله بن أبي السرح في التوغل في أرض إفريقيا وطلب منه النجدة استشار عثمان الصحابة فأشاروا به.
وهذا كله يكشف بجلاء أن الشورى الإسلامية لم تتخذ نمطاً واحداً في شكل محدد، فمنها ما يمكن طرحه للناس كافة في استفتاء عام، ومنها ما يمكن بحثه بين مجموعة من أهل الرأي والخبرة، ومنها ما لا يمكن أن يكون محل بحث إلا في نطاق محدود فبأي صورة طرحت الشورى وتحقق الغاية منها فإن الإسلام يقره ويرتضيه.

. خلاصة لأساليب الشورى ووسائلها:

ومن هنا يمكن القول أن أساليب الشورى ووسائلها تتغير بحسب ما تقتضيه مصلحة الأمة ويوافق متطلبات العصر ولا يختلف مع شرع الله في شيء، وإن قيام مجالس للشورى لا يصادر حق ولي الأمر في إصدار القرار بعد المشاورة وبيان الصواب وإنما يحد من التسلط أو الوقوع في الخطأ، وليس بمهم تسميات هذه المجالس سواء سميت مجالس شورى أو مجالس نواب أو غير ذلك.
أما أسلوب الاختيار الأمثل فإن فقهاء السياسة والعلماء يختلفون في العصر الحاضر فمنهم من ذهب إلى أن الطريق الأمثل هو الانتخاب مباشرة من الشعب بشرط أن تضع الدولة الإسلامية نظاماً لإجراء هذا الانتخاب وضمان سلامته على أن يتضمن هذا النظام أو القانون تعيين الشروط على ضوء ما ذكره الفقهاء وحجة أصحاب هذا الاتجاه يتمثل في أمرين:
الأول: أن اختيار ممثل الأمة بطريق الانتخاب يجد مستنده في القرآن الكريم وذلك في آيتي الشورى وهما قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} وقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وانتخاب ممثل الأمة منهم أهم الأمور التي تجري فيها الشورى، وإجراء الشورى فيها يكون باستشارة أفراد الأمة فيمن يكونون ممثلين عنها، والوسيلة لمعرفة رأي أفراد الأمة هو الانتخاب ويقولون أن سند ذلك كما هو موجود في كتاب الله العزيز فإن القارئ يجد سنده في السيرة النبوية وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام لأهل بيعة العقبة: «أخرجوا منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم»، فأخرجوا عليهم اثني عشر نقيباً تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، قال ابن إسحاق: حدثني عبدالله بن أبي بكر أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال للنقباء: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم وأنا كفيل على قومي». قالوا: نعم.
الأمر الثاني: قالوا أن كل طريق يمكن به تبين من يحوز ثقة جمهور الأمة هو جائزٌ شرعاً إذ الأصل في الأشياء الإباحة، ولا شك أن طريق الانتخاب في هذا الزمان هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تظهر رأي الأمة فيمن يمثلها بشرط أن لا يستعمل فيها التزوير والغش والخداع وما إلى ذلك مما يحرمه الشرع.
ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الانتخاب ليس بمحظور شرعاً ولا يتعارض مع أهداف النظام الإسلامي وما تقتضيه المصلحة ولكن بشرط أن يجري الانتخاب بحرية تامة بعيداً عن الهوى والتزييف أو التزوير. وقد قال الإمام أبو الأعلى المودودي أنه يجوز أن تستخدم اليوم على حسب أحوالنا وحاجاتنا كل طريق مباح يمكن به تبين من يحوز ثقة جمهور الأمة، ولا شك أن طرق الانتخاب في هذا الزمان هي أيضاً من الطرق المباحة التي يجوز لنا استخدامها بشرط أن لا يستعمل فيها ما يستعمل من الحيل والوسائل المرذولة. وقد نقل الدكتور الباز عن الإمام حسن البنا قوله: لقد رتب النظام الحديث طريق الوصول إلى أهل العقد والحل بما وضع الفقهاء الدستوريون من نظم الانتخاب وطرائقه المختلفة ما دام يؤدي إلى اختيار أهل الحل والعقد.
قلت: وهذه المسألة من المسائل التي يحدد وسائلها العلماء وتتخذ الدولة بذلك نظاماً أو قانوناً، وإذا كان أصحاب هذا الاتجاه قد أوجدوا سنداً من الكتاب والسنة فإنه لا يعني الاختلاف في الوسيلة التي توصل الأمة إلى الشورى وجواز تغيرها إذ ليست الأدلة تدل بصفة قاطعة على طريق معينة كما سبق وأن بينا ذلك ولكنه بلا شك طريق مثالي إذا تجرد من الحيل ووسائل الغش المرذولة الذي أشار إليها الإمام أبو الأعلى المودودي.
أما أصحاب الاتجاه الثاني فإنهم يرون أن الانتخاب ليس الطريق الأمثل في اختيار أعضاء مجلس الشورى وأن الاعتماد على الجمهور والشعب أو على الاستفتاءات العامة وسيلة قد يساء استعمالها من الحاكمين لأخذ المبادرة وجعل المفكرين والعلماء وأرباب الاختصاص وأولي النهي رقماً مهملاً أو رقماً يتساوى مع عامة الناس ممن ليس لهم رأي سديد ولا معرفة صحيحة أو خبرة أو دراية. نقل ذلك الأستاذ محمد المبارك في تقديمه لكتاب نظام الحكم في الإسلام وقال أنا لا أقول بإهمال الجمهور ففي نصوص الشريعة واتجاهات السلف ما يجعل لهم موقفاً ومكاناً كحق النقد والمجاهرة بالحق أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمبايعة العامة للإمام، لكن أستاذنا الكبير يميل إلى إعطاء القيمة الكبرى لجمهور الشعب حتى في التشريع وهي مسألة اختصاصية. ويقرب من هذا القول ما ذكره الدكتور أحمد العوضي في كتابه الحقوق السياسية حيث فرق بين نوعين من الشورى الأولى الشورى غير الملزمة ويقصد بها أخذ آراء أهل الاختصاص والتقيد بأصوبها وأطلق على مجلسها اسم مجلس الشورى والثاني الشورى الملزمة ويقصد بها أخذ رأي الأمة أو أهل الحل والعقد والتقيد برأي الأكثرية فيهم، وأطلق على مجلسها اسم مجلس الحل والعقد، وعن طريق العضوية في مجلس الشورى قال: لذلك فإن لطريقة الانتخاب عيوباً تجعلها غير مفضلة عقلاً فضلاً عن عدم وجود ما يستدل به شرعاً على مشروعيتها، فإن الأمة لا تدرك حاجة الخليفة من المستشارين حتى تزوده بهم، وإن أدركت ذلك إلا أن الخليفة قد لا يألف من انتُخِب مستشاراً له، لذلك فإن الأمثل أن يُترَك للخليفة حق اختيار أعضاء مجلس الشورى وفق الشروط الدستورية وقد يكون منها استفاضة أخبار فضلهم واشتهارهم بالعلم والخبرة والرأي السديد في اختصاصهم سواءً كان في الأحكام الشرعية أم في غيرها من التخصصات والعلوم في الاقتصاد والعلوم والسياسة وغير ذلك.
وهناك اتجاه ثالث ذكره الدكتور عبدالله الكيلاني في كتابه القيود الواردة على سلطة الدولة في الإسلام وضمانتها يرى فيه أصحاب هذا الرأي أن طريقة اختيار أعضاء مجالس الشورى تتنوع بتنوع الوظائف التي يمارسها المجلس في الأنظمة البرلمانية الحديثة والتي يمكن حصرها في ثلاث وظائف:
الأولى وظيفة سياسية وتتمثل باختيار الحاكم ومنح الثقة للسلطة التنفيذية أو حجبها عنها مع ممارسة الرقابة عليها أثناء عملها.
الثانية وظيفة مالية وتتمثل بالموافقة على الموازنة السنوية للدولة.
الثالثة وظيفة تشريعية وتتمثل في سن القوانين.
فبالنظر إلى الوظيفة الأولى والثانية فإن أصحاب هذا الرأي يرون أنه يتعين اختيار أعضاء المجلس بطريقة الانتخاب الشعبي، لأن الأمة هي صاحبة الحق في اختيار الحاكم ومراقبة أعماله فيكون لها الحق في اختيار من ينوب عنها في هذه المهمة، والانتخاب هو الأسلوب العلمي الأمثل لهذا الاختيار، ولأن إقرار الموازنة العامة للدولة قد يرتب التزامات مالية معينة على أفراد الأمة الذي يقتضي استئمارها في ذلك أو استئمار ممثليها، ولا يخفى أن وسائل التمثيل مختلفة من عصر إلى عصر، وفي العصر الحديث تعد الانتخابات أحد أصدق سبل التمثيل.
وبالنظر إلى الوظيفة الثالثة للمجلس فإن الانتخاب وتحصيل الأصوات لا يعد أسلوباً مناسباً لتأهيل الشخص المنتخب لممارسة الدور التشريعي بسن القوانين ذلك أن مهمة التشريع المتمثلة بسن القوانين تحتاج إلى كفاءات علمية قد لا تكون كثرة الأصوات الانتخابية معبرة لعدم التلازم، ومن هنا كان لا بد من سد هذه الثغرة إما بإعطاء الحاكم حق تعيين ذوي الكفاءات والتخصصات الذين يحتاج إليهم المجلس لممارسة الدور التشريعي إذا أخطأهم الانتخاب الحر، على أن يكون عددهم والسلطة الممنوحة لهم تتناسب والغاية من منحهم عضوية المجلس حتى لا يكون وجودهم مفرغاً من غايته، وإما باشتراط شروط عملية دقيقة في المرشحين بحيث لا يصل إلى المجلس إلا كفء قادر، وعلى الاختيار الأول يتم الدمج في مجلس واحد بين الأعضاء المنتخبين بطريق الانتخاب المباشر وبين الأعضاء المعينين وذلك حتى يؤدي المجلس دوره بتسديد خط الدولة في التشريع والتنظيم وإمدادها بالرأي القوي المدروس من أهل الاختصاص والبصر بشئون الدين والدنيا توصلاً إلى تحقيق المصلحة العامة.
وهذه الاتجاهات الثلاثة على ما رأينا لا نراها تبتعد عن منهاج الشريعة الإسلامية، وقد أخذت بعض الدول بالاتجاه الأول وذلك كما هو الحال في الجمهورية اليمنية بالنسبة لمجلس النواب، أما مجلس الشورى فقد جاء بالتعيين وليس هناك ما يمنع من تشكيل مجلسين، أما الاتجاه الثاني فقد أخذت به بعض الدول كالمملكة العربية السعودية التي يصدر فيها مرسومٌ ملكيٌ بتعيين وتسمية أعضاء مجلس الشورى كما هو الحال في نظام مجلس الشورى السعودي الصادر عام 1412هـ 1992م، وأخذ بالاتجاه الثالث بعض الدول كما هو الحال في المملكة الأردنية الهاشمية فمجلس الأمة الأردني يتكون من مجلس النواب ويتألف من أعضاء منتخبين ومن مجلس الأعيان ويتألف من أعضاء يعينهم الملك، فوجود مجالس نيابية تعنى بالشورى في التشريع وسن القوانين وبمنح الثقة للسلطة التنفيذية أو حجبها عنها والموافقة على الموازنة السنوية وعلى المعاهدات والاتفاقات هي ضرورة لا بد منها وكذلك في تقديرنا وجود مستشارين لرئيس الدولة يتشاور معهم في المهام الموكلة إليه ومنها اختيار كبار موظفي الدولة وتحديد المعايير التي يجب أن تتوافر فيمن يتولى الوظائف الهامة فذلك من الضرورة بمكان، فممارسة الأمة للشورى بهذه الكيفية أو بأي كيفية تؤدي إلى قيام الدولة بواجبها وأداء السلطة العامة لوظيفتها على النحو الذي يحبه الله ويرضاه هي فريضة إلهية وضرورة شرعية أرشد إليها القرآن والسنة النبوية وحرص على ممارستها أولو الفضل من الخلفاء الراشدين ومحبوا العدل من التابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا، ولا غرابة إن وجد تقارب بين الفكر الإسلامي والفكر الديمقراطي لأن جوهر الفكر هو الأخذ بآراء الناس مجتمعين فيما يصلح شئونهم، غير أن الفكر الإسلامي يتميز باتباعه لمنهج الله وتمسكه بالعدل، بينما الفكر الديمقراطي لا يتطابق مع الفكر الإسلامي في جزئيات كثيرة، لأن الشورى الإسلامية لم تأت استجابة لضغط جماهيري ولا هي منحة من الحاكم وإنما هي بأمر الله وإرشاده وتوجيهه الذي عالج شئون البشرية بما يسدد حاجاتها ويصلح شئونها على أساس من العدل، وهي تقوم على أساس جعل السيادة لتشريع الله عز وجل وللأمة ممارسة السلطة على أساس من العدل بينما الأنظمة الديمقراطية المعاصرة تقوم على جعل السيادة والسلطة معاً للأمة، ولذلك فإنها ترى أنه لا علاقة للدين بتنظيم سلوك الإنسان، ووجد مبدأ سياسة فصل الدين عن الدولة والإرادة الشارعة في الديمقراطية الوضعية لا تحكمها إلا إرادة الأمة ممثلة بنوابها، وقد سبق بيان ذلك ولهذا نرى أن الشورى الإسلامية هي الشورى المنزهة عن الهوى والعصبية والجهل والاستبداد، فإذا ما ظهر سلوك لا يقره الشرع ولا يرضى به الحق وجب تغييره، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وبأي أسلوب تمت الشورى وتحقق بها إصلاح شئون الأمة ويتفق مع منهج الله الذي جاءت به شريعته الإسلامية لا تمنعه ولا تختلف معه، ففي عدم تحديد أسلوب معين يلزم الأمة التقيد به حكمة عظيمة وفيه إفساح للإنسان كي يبدع ويجتهد ويبتكر الأسلوب الذي يناسب كل عصر وفي ذلك يقول الدكتور عبدالله بن أحمد قادري: يبدو واضحاً من الأحداث التي ذكرت في دراسة ما سلكه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في أسلوب الشورى وطرق إجرائها- وهي في أحداث قليلة من كثير- أن الشارع الحكيم لم يضع أسلوباً معيناً يلزم المسلمين باتباعه في كل أمر يحدث لهم يحتاجون فيه إلى المشورة، بل ترك الباب مفتوحاً للمسلمين ليتخذوا لكل حدث ما يناسبه من الأسلوب الذي تجري به الشورى، فالأحداث مختلفة منها ما يحتاج إلى رأي شخصٍ واحدٍ ومنها ما لا يكفي فيه إلا شخصان أو أكثر، ومنها ما لا يكفي فيه إلا أهل الحل والعقد بأجمعهم، ومنها ما يقع في ظروف تتعين فيها السرعة والبت في الأمر ويصعب تأجيل ذلك حتى يجتمع أهل الحل والعقد كلهم فيكتفي بالحاضرين، ومنها ما لا ينبغي أن يطلع عليه إلا العدد القليل لأنه خطر يقتضي السرية وعدم النشر، ومنها ما يحتاج فيه إلى ذوي خبرة معينة، وقد يقتضي الأمر استقصاء أراء أهل الحل والعقد في اجتماع واحد، وقد يقتضي الأمر تقسيمهم إلى مجموعات بحيث يؤخذ رأي كل مجموعة على حده، وقد يقتضي أخذ رأي زعماء أهل الحل والعقد فقط، وهكذا تختلف موضوعات الشورى وزمانها ومكانها وأهلها، ولكل مقام مقال ولكل أمر رجال، وقد تحدث في بعض العصور وسائل يكون استعمالها أجدى وأنفع في أسلوب الشورى، وقد حدث في هذا العصر مثلاً سبل جديدة لسرعة المواصلات والاتصالات كما حدثت أنظمة إدارية دقيقة لا يصعب معها مشاورة أهل الحل والعقد كلهم في جميع بلاد المسلمين في الغالب سواءً كان ذلك عن طريق الاجتماعات العامة كالمساجد وقاعات الاجتماعات والمؤتمرات أو عن طريق التقسيمات الإدارية للبلدان، كالمقاطعات والمدن والحارات أو عن طريق المراكز الحكومية كالوزارات والمؤسسات، أو عن طريق التجمعات العمالية كالمصانع ونحوها، أو عن طريق أجهزة الاتصالات المباشرة السمعية والبصرية، كالهاتف والمذياع والتلفاز كل ذلك أصبح ميسراً لا صعوبة فيه ولقد كان حدث اختيار الخليفة يحتاج إلى استشارة أهل الحل والعقد في المدينة وخارجها من البلدان، ولكن ذلك يصعب في ذلك الزمان لصعوبة المواصلات والاتصالات، فاكتفى في ذلك بأهل الحل والعقد الحاضرين في المدينة وما جاورها لأن ذلك هو المستطاع في ذلك الوقت، لذلك حدد الشارع الهدف من الشورى، وهو الوصول إلى الحق والتعاون على تحقيقه بالوسائل الممكنة، كما حدد صفات أهل الشورى وعلاقتهم بولي الأمر، وترك الوسيلة إلى اتخاذ الشورى بدون تحديد معين بل اتخذ وسائل مختلفة لذلك تدل على سعة الأمر في ذلك ليتخذ المسلمون أنفع الوسائل وأنجحها لكل حدث وفي كل زمان ومكان.
وقال عبدالقادر عودة رحمهُ الله بعد أن ذكر الآيتين الواردتين في الشورى وهما قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، وظاهر من النصين المقررين لمبدأ الشورى أنهما عامَّان مرنان إلى آخر حدود العموم والمرونة بحيث لا يمكن أن يحتاج الأمر إلى تعديلهما أو تبديلهما في المستقبل، وفي هذا بيان لما قلناه من أن الشريعة تتميز بصفة الدوام وأنها لا تقبل التبديل والتعديل، ولهذه الاعتبارات اكتفت الشريعة بتقديم الشورى كمبدأ عام وتركت لأولياء الأمور في الجماعات أن يضعوا معظم القواعد لتنفيذه لأن هذه القواعد تختلف تبعاً لاختلاف الأمكنة والجماعات والأوقات، فلأولياء الأمور مثلاً أن يعرفوا رأي الشعب عن طريق رؤساء الأسر والعشائر أو عن طريق ممثلي الطوائف أو بأخذ رأي الأفراد الذين تتوفر فيهم صفات معينة إما بطريق التصويت المباشر وإما بطريق التصويت غير المباشر، ولأولياء الأمور أن يسلكوا أي سبيل آخر يرون أنه أفضل من غيره من تعرف رأي الجماعة بشرط أن لا يكون في ذلك كله ضرر ولا ضرار بمصالح الأفراد أو الجماعة أو النظام العام.
أما الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد فإنه يقول: ولقد دعا الإسلام إلى الشورى، وحث على الأخذ به، وطبقها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصور مختلفة، وطبقها خلفاؤه الراشدون من بعده، لكنه لم يضع لها صورة محددة، ولا إطاراً محدداً، بل لم يضع لها نظاماً تفصيلياً ملزماً، غير أنه ترك ذلك ليجتهد فيه المسلمون تبعاً لاختلاف الظروف والأحوال، وتعدد الوسائل وتنوع الأساليب. وبذلك يعرف أن الشورى نظاماً متطوراً يتماشى ومصالح الأمة ومتطلبات كل عصر باعتبار أن عدم تحديد آليةٍ معينةٍ للشورى تطبق به يعد من المميزات التي تتفق مع منهج الإسلام في التشريع من تقرير الكليات وإرساء الأصول العامة، والنص على المبادئ والأحكام الأساسية، تاركاً التفصيلات الفرعية والجزئية لمقتضيات الزمان والمكان، بحيث تتخذ الشكل الملائم لتحقيق المصلحة تبعاً للظروف، بما يوافق الشريعة الإسلامية، وبالتالي فقد تركت نظم الشورى وإجراءاتها دون تحديد، رحمةً بالناس، وتوسعةً عليهم، وتمكيناً لهم من اختيار ما ترجحه العقول وتدركه الأذهان بضوابط وآليات متجددة.